سورة الحج - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحج)


        


قلت: {زلزلة}: مصدر مضاف إلى فاعله على المجاز، أو إلى الظرف، وهي الساعة. و{يوم}: منصوب بتذهل.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {يا أيها الناس اتقوا ربكم}، الخطاب عام لجميع المكلفين ممن وُجد عند النزول، وينخرط في سلكهم من سيُوجد إلى يوم القيامة. ولفظ {الناس} يشمل الذكور والإناث. والمأمور به مطلق التقوى، الذي هو امتثال الأوامر واجتناب النواهي ظاهرًا وباطنًا، والتعرض لعنوان الربوبية، مع إضافتها لضمير المخاطبين؛ لتأكيد الأمر، وتأكيد إيجاب الامتثال به؛ لأن الربوبية دائمة، والعبودية واجبة بدوامها، أي: احذروا عقوبة مالك أموركم ومربيكم.
ثم علل وجوب التقوى بذكر بعض عقوبته الهائلة عند قيام الساعة، فقال: {إِن زلزلة الساعة شيء عظيم}، فإن ملاحظة عظمها وهولها وفظاعة ما هي من مبادئه ومقدماته، مما يوجب مزيد اعتناء بملابسة التقوى والتدرع بها. والزلزلة: التحرك الشديد والإزعاج العنيف، بطريق التكرير، بحيث تزيل الأشياء من مقارها، وتخرجها عن مراكزها، وهي الزلزلة المذكورة في قوله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا} [الزّلزَلة: 1] الآية. واخْتُلِفَ في هذه الزلزلة وما ذكر بعدها، هل هي قيام الساعة عند نفخة الصعق، أو بعدها عند الحشر؟ فقال الحسن رضي الله عنه: إنها تكون يوم القيامة. وعن ابن عباس رضي الله عنه: زلزلة الساعة: قيامها. وعن علقمة والشعبي: أنها قبل طلوع الشمس من مغربها، فإضافتها إلى الساعة؛ لكونها من أشراطها. قال الكواشي: وهذه الزلزلة تكون قبل قيام الساعة من أشراطها. قالوا: ومن أشراط الساعة، قبل قيامها، ست آيات: بينما الناس في أسواقهم، إذ ذهب ضوء الشمس، ثم تناثرت النجوم، ثم وقعت الجبال على وجه الأرض، فتحركت واضطربت الأرض، ففزع الإنسُ والجن، وماج بعض في بعض؛ خوفًا ودهشًا، فقالت الجنُ للإنس: نحن نأتيكم بالخبر، فذهبوا، فرأوا البحار تَأَجَّجُ نارًا، فبينما هم كذلك إذ تصدعت الأرض إلى الأرض السابعة، ثم جاءتهم الريح فماتوا. اهـ. وانظر ابن عطية. قاله المحشي. والتحقيق: ما قدمناه عند قوله: {واقترب الوعد الحق} [الأنبيَاء: 97]، وأنَّ الريح إنما تقبض أرواح المؤمنين، وهذه الزلزلة إنما تقع عند نفخة الصعق. والله تعالى أعلم. وفي التعبير ب {شيء عظيم} إيذان بأن العقول قاصرة عن إدراك كنهها، والعبارة ضيقة، لا تحيط بها إلا على وجه الإبهام.
ثم هوَّل شأنها، فقال: {يوم ترونها} أي: الزلزلة، وتُشاهدون هول مطلعها، {تذهل كل مرضعة} أي: مباشرة للإرضاع، {عما أرضعت} أي: تغفل وتغيب، من شدة الدهش عما هي بصدد إرضاعه من طفلها، الذي ألقمته ثديها. فالمرضعة، بالتاء، هي المباشرة الإرضاع بالفعل، والمرضع- بلا تاء- لمن شأنها ترضع، ولو لم تباشر الإرضاع. والتعبير عنه بما، دون من؛ لتأكيد الذهول، كأنها من شدة الهول لا تدري من هو بخصوصه، وقيل: ما مصدرية، أي: تذهل عن إرضاعها.
والأول أدل على شدة الهول وكمال الانزعاج.
{وتضع كل ذات حملٍ حملها} أي: تلقى جنينها من غير تمام، كما أن المرضعة تذهل عن ولدها قبل الفطام. وهذا على قول من يقول: إنها قبل نفخة الصعق ظاهر، وأما على من يقول، إنها بعد قيام الساعة، فقد قيل: إنه تمثيل؛ لتهويل الأمر وشدته. {وترى الناس سُكارى} أي: وترى أيها الناظر الناس سكارى، على التشبيه، من شدة الهول، كأنهم سكارى لمّا شاهدوا بساط العزة وسلطنة القهرية، حتى قال كلُّ نبي: نفسي نفسي. {وما هم بسُكارى} على التحقيق، {ولكنَّ عذاب الله شديد}، فخوف عذابه هو الذي أذهل عقولهم، وطيَّر تمييزهم، وردهم في حال من يَذهب السكُر بعقله وتمييزه. وعن الحسن: وترى الناس سكارى من الخوف، وما هم بسكارى من الشراب. وقرئ: {سكْرى}؛ كعطشى. والمعنى واحد، غير أن فعلى يختص بما فيه آفة، كجرحى وقتلى ومرضى. والله تعالى أعلم.
الإشارة: يا أيها الناس اتقوا ربكم وتوجهوا إليه بكليتكم، حتى تُشرق على قلوبكم أنوار ربكم، فتزلزل أرض نفوسكم، وتدك جبال عقولكم، عند سطوح شمس العرفان، والاستشراف على مقام الإحسان. إن زلزلة الساعة، التي تشرف فيها على أسرار الذات، شيء عظيم. يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت، لو كانت أنثى، وتضع كل ذات حمل حملها كذلك، أو تضع كل ذات حمل أثقالها؛ بالغيبة في ربها، وترى الناس سكارى من خمر المحبة، وما هم بسكارى من شراب الدَّوالي، لكن من خمر الكبير المتعالي، كما قال الششتري في الخمرة الأزلية- بعد كلام-:
لاَ شَرابَ الدَّواليِ إِنَّها أَرْضِيَّة *** خَمْرُهَا دُون خَمْرِي خَمْرَتِي أَزَلِيّة
ولكن عذاب الله- الذي قدمه قبل دخول جنته المعنوية وحفت به، وهي جنة المعارف- شديد، ولكنه يحلو في جانب ما ينال بعده، كما قال الشاعر:
والنَّفْسُ عَزَّتْ ولكنْ فيكَ أبْذُلُهَا *** والذُّلُّ مرٌّ ولكن في رضاكَ حَلاَ
يا من عذابِيَ عَذْبٌ في محبته *** لا أشتكي منك لا صَدّا ولا مَلَلا


قلت: {ومن الناس}: خبر، و{مَن يجادل}: مبتدأ، و{بغير علم}: حال من ضمير {يُجادل}، و{أنه}: نائب فاعل {كُتب}، أي: كتب عليه إضلال من تولاه، و{فإنه}: مَنْ فتح: عنده خبر عن مبتدأ مضمر، أي: فشأنه أن يضله، والجملة جواب {مَن}، إن جعلتها شرطية، وخبر، إنْ جعلتها موصولة متضمنة لمعنى الشرط، ومن كسر: فخبر، أو جواب {مَنْ}.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {ومن الناس من يُجادل} ويخاصم {في الله} أي: في شأنه، ويقول ما لا يليق بجلال كبريائه وكمال قدرته، ملابسًا {بغير علم}، بل بجهل عظيم حمله على ما فعل. نزلت في النضر بن الحارث، وكان جَدلاً، يقول: الملائكة بنات الله، والقرآن أساطير الأولين، ولا بعث بعد الموت، والله غير قادر على إحياء من بَلى وصار رميمًا. وهي عامة له ولأضرابه من العتاة المتمردين، وكل من يخاصم في الدين بالهوى. {ويتَّبعُ} في ذلك {كلَّ شيطان مَرِيدٍ}؛ عاتٍ متمرد، مستمر في الشر. قال الزجاج: المَريد والمارد: المرتفع الأملس، أي: الذي لا يتعلق به شيء من الخير، والمراد: إما رؤساء الكفرة الذين يدعونهم إلى الكفر، وإما إبليس وجنوده.
ثم وصَف الشيطان المريد بقوله: {كُتِبَ عليه} أي: قضى على ذلك الشيطان {أنه} أي: الأمر والشأن {مَن تولاه} أي: اتخذه وليًا وتبعه، {فأنَّه} أي: الشيطان {يُضِلُّه} عن سواء السبيل، {ويهديه إِلى عذاب السعير} أي: النار. والعياذ بالله.
الإشارة: ومِن الناس من تنكبت عنه سابقةُ الخصوصية، فجعل يجادل في طريق الله، وينكر على المتوجهين إلى الله، إذا حرقوا عوائد أنفسهم، وسَدَّ الباب في وجوه عباد الله، فيقول: انقطعت التربية النبوية، وذلك منه بلا عِلْمِ تحقيقٍ ولا حجةٍ ولا برهان، وإنما يتبع في ذلك كُلَّ شيطان مريد، سوَّل له ذلك وتبعه فيه. كُتب عليه أنه من تولاه، وتبعه في ذلك، فإنه يُضله عن طريق الخصوص، الذين فازوا بمشاهدة المحبوب، ويهديه إلى عذاب السعير، وهو غم الحجاب والحصر في سجن الأكوان، وفي أسر نفسه وهيكل ذاته، عائذًا بالله من ذلك.


يقول الحقّ جلّ جلاله: {يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث} أي: إن شككتم في أمر البعث، فمُزيل ريبكم أن تنظروا في بدء خلقكم، وقد كنتم في الابتداء تُرابًا وماء، وليس سبب إنكاركم بالبعث إلا هذا، وهو صيرورة الخلق ترابًا وماء، فكما بدأكم منه يعيدكم منه، كما قال تعالى: {فإِنّا خلقناكم} أي: أباكم {من تراب ثم} خلقناكم {من نطفة ثم من علقة} أي: قطعة دم جامدة، {ثم من مضغة} أي: لحمة صغيرة، بقدر ما يمضغ، {مُخَلَّقةٍ} أي: مصورة الخلقة، {وغيرِ مُخَلَّقةٍ} أي: لم يتبين خلقها وصورتها بعدُ. والمراد: تفصيل حال المضغة؛ من كونها أولاً مضغة، لم يظهر فيها شيء من الأعضاء، ثم ظهرت بعد ذلك شيئًا فشيئًا. وكان مقتضى الترتيب أن يُقدم غير المخلقة على المخلقة، وإنما أخرت عنها؛ لأنها عدم الملكة، والملكة أشرف من العدم.
وإنما فعلنا ذلك؛ {لنُبيِّنَ لكم}، بهذا التدريج، كمال قدرتنا وحكمتنا؛ لأن من قدر على خلق البشر من تراب أولاً، ثم من نطفة ثانيًا، وقدر على أن يجعل النطفةَ علقةً، والعلقة مضغة، والمضغة عظامًا، قدر على إعادة ما بدأ، بل هو أهون في القياس {ونُقِرُّ} أي: نثبت {في الأرحام ما نشاء} ثبوته {إِلى أجلٍ مسمى}: وقت الولادة، وما لم نشأ ثبوته أسقطته الأرحام. {ثم نُخرِجُكم} من الرحم {طفلاً}، أي: حال كونكم أطفالاً. والإفراد باعتبار كل واحد منهم، أو بإرادة الجنس، {ثم لتبلغوا أشدَّكم} أي: ثم نربيكم؛ لتبلغوا كمال عقلكم وقوتكم. والأشد: من ألفاظ الجموع التي لم يستعمل له واحد. ووقته: قيل: ثلاثون سنة، وقيل: أربعون.
{ومنكم مَن يُتوفى} قبل بلوغ الأشد أو بعده، {ومنكم من يُردُّ إِلى أرذل العُمُر} أي: أخسه، وهو الهرَمُ والخرف، {لكيلا يعلمَ من بعد علم شيئًا} أي: لكيلا يعلم شيئًا من بعد ما كان يعلمه من العلوم، مبالغة في انتقاص علمه، وانتكاس حاله، أي: ليعود إلى: ما كان عليه في أوان الطفولية، من ضعف البنية، وسخافة العقل، وقلة الفهم، فينسى ما علمه، وينكر ما عرفه، ويعجز عما قدر عليه. قال ابن عباس: من قرأ القرآن، وعمل به، لا يلحقه أرذل العمر. ثم ذكر دليلاً آخر على البعث، فقال: {وترى الأرض هامدةً}: ميتة يابسة، {فإِذا أنزلنا عليها الماء اهتزت}؛ تحركت بالنبات {ورَبَتْ}؛ انتفخت {وأنبتتْ من كل زوج}: صنف {بهيج}: حسن رائق يسر ناظره.
{ذلك بأن الله هو الحق} أي: ذلك الذي ذكرنا؛ من خلق بني آدم، وإحياء الأرض، مع ما في تضاعيف ذلك من أصناف الحِكم، حاصل بهذا، وهو أن الله هو الحق، أي: الثابت الوجود. هكذا للزمخشري ومن تبعه، وقال ابن جُزَي: والظاهر: أن الياء ليست سببية، كما قال الزمخشري، وهو أيضًا مقتضى تفسير ابن عطية، وإنما يُقدر لها فعل يتعلق به ويقتضيه المعنى، وذلك أن يكون التقدير: ذلك الذي تقدم من خلق الإنسان والنبات، شاهد بأن الله هو الحق، وبأنه يحيي الموتى، وبأن الساعة آتية، فيصح عطف {وأن الساعة} على ما قبله، بهذا التقدير، وتكون هذه الأشياء المذكورة، بعد قوله: {ذلك}، مما استدل عليه بخلقة الإنسان والنبات. اهـ.
قال المحشي الفاسي: ويرد عليه: أن تقديره عاملاً خاصًا يمنع حذفه، وإنما يحذف إذا كان كونًا مُطلقًا، فلا يقال: زيد في الدار، وتريد ضاحكٌ مثلاً، إلا أن يقال في الآية: دل عليه السياق، فكأنه مذكور. وعند الكواشي: ليعلموا بأن الله هو الحق. وقال القرطبي: قوله: {ذلك بأن الله هو الحق}، لمّا ذكر افتقار الموجودات إليه، وتسخيرها على وفق اقتداره واختياره، قال بعد ذلك: {ذلك بأن الله هو الحق}، نبه بهذا على أن كل ما سواه، وإن كان موجودًا؛ فإنه لا حقيقة له من نفسه؛ لأنه مسخر ومُصَرفٌ، والحق الحقيقي هو الموجود المطلق، الغني المطلق، وإنَّ وجود كل موجود من وجوب وجوده، ولهذا قال في آخر السورة: {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الباطل} [الحَجّ: 62]، والحق هو الوجود الثابت، الذي لا يزول ولا يتغير، وهو الله تعالى. ثم قال عن الزجاج: {ذلك} في موضع رفع، أي: الأمر ما وُصِفَ لكم وبُيِّن؛ لأن الله تعالى هو الحق، ويجوز كونه في مَوْضِع نصب، أي: فعل ذلك بأن الله هو الحق، قادر على ما أراد. اهـ.
وذلك أيضًا شاهد بأنه {يُحيي الموتى} كما أحيا الأرض، مرة بعد أخرى، {وأنه على كل شيء قدير} أي: مبالغ في القدرة، وإلاَّ لَمَا أوجد هذه الموجودات الفائتة الحصر. وتخصيص إحياء الموتى بالذكر، مع كونه من جملة الأشياء المقدور عليها؛ للتصريح بما فيه النزاع، وللطعن في نحور المنكرين. {وأنَّ الساعة آتيةً}: قادمة عليكم، {لا ريبَ فيها}، وإيثار اسم الفاعل على الفعل؛ للدلالة على تحقق إتيانها وتقريره ألْبَتَّةَ. ومعنى نفي الريب عنها: أنها، في ظهور أمرها ووضوح دلائلها، بحيث ليس فيها مظنة الريب، {وأنَّ الله يبعثُ من في القبور}؛ لأنه تعالى حكم بذلك ووعد به، وهو لا يخلف الميعاد، والتعبير ب {من في القبور}: خرج مخرج الغالب، وإلاَّ فهو يبعث كل من يموت. والله تعالى أعلم وأحكم.
الإشارة: يا أيها الناس المنكرون لوجود التربية النبوية، وظهور أهل الخصوصية في زمانهم، الذين يحيي الله الأرواح الميتة، بالجهل والغفلة، على أيديهم؛ إن كنتم في ريب من هذا البعث فانظروا إلى أصل نشأتكم وتنقلات أطواركم، فمن فعل ذلك وقدر عليه، قدر أن يحيي النفوس الميتة بالغفلة في كل زمان. وفي الحِكَم: (من استغرب أن ينقذه الله من شهوته، وأن يُخرجه من وجود غفلته، فقد استعجز القدرة الإلهية، وكان الله على كل شيء مقتدرًا). وجرت عادته أنه لا يحييها في الغالب إلا على أيدي أهل الخصوصية. وترى أرض النفوس هامدة ميتة بالغفلة، فإذا أنزلنا عليها ماء الحياة، وهي الواردات الإلهية، وأسقيناها الخمرة القدسية، اهتزت فرحًا بالله، وربت، وارتفعت بالعلم بالله، وأنبتت من أصناف العلوم والحكم، ما تَبْهَجُ منه العقول، ذلك شاهد بوحدانية الحق، وأن ما سواه باطل. وبالله التوفيق.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8